تأخر ظهور فكرة الوطنية في الجزائر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى ببضع سنوات. وذلك
راجع إلى مدى الضرر الذي لحق بالثقافة العربية، وإلى ضآلة الطبقة المتوسطة بتلك
البلاد، نتيجة انتزاع الاستعمار لمصادر الثروة من أيدي سكانها ووضعها بأيدي
المستوطنين الأجانب. ومع ذلك فلم تعدم الجزائر بقية من مجتمعها العربي الإسلامي العريق. فظل أفرادها
يرنون إلى دار الخلافة على أنها المخلص الطبيعي، ودعوا إلى فكرة الجامعة الإسلامية
لمواجهة الاستعمار الأوروبي. وقد تزعم هذه الحركة بالجزائر سنة 1328هـ، 1910م
المحامي أحمد بوضربة والصحفي الصادق دندان ورجل المال الحاج عمار. وفي سنة 1330هـ،
1912م قدم أربعة من الشبان الجزائريين، عريضة إلى الحكومة الفرنسية يطالبون فيها
برفع القوانين الاستثنائية، والتسوية بين الجزائريين والفرنسيين في الحقوق
والواجبات. وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو ما يعرف بسياسة الإدماج. وأثناء الحرب
العالمية الأولى جندت فرنسا عشرات الآلاف من الجزائريين، أشركت آلافًا منهم في
القتال على الجبهات وأرسلت الآخرين للعمل في المصانع الحربية والمناجم، وأتيح لعدد
من الضباط الجزائريين الترقي إلى رتب عالية في الجيش الفرنسي حتى رتبة عقيد. وقد
عقد هؤلاء الآمال على مؤتمر فرساي، فتزعموا بعد الحرب، وفي مقدمتهم الأمير خالد بن
محي الدين أحد أحفاد الأمير عبد القادر، الدعوة للإصلاح على أساس بقاء الجزائر جزءًا من الأراضي
الفرنسية. فألف الأمير ما أسماه بكتلة المنتخبين المسلمين الجزائريين، التي ركزت
أهدافها في إصلاح الأحوال الاجتماعية وإيقاف هجرة المستوطنين ومساواة الجزائريين
بالفرنسيين في الانتخاب والتمثيل في المجالس بمختلف مستوياتها. وأصدرت الكتلة جريدة
الإقدام للمناداة بفكرة الإدماج. بيد أن الأمير تعرض للإبعاد، ولما سمح له
بالعودة إلى فرنسا سنة 1336هـ، 1928م، اتصل بوطنيين جزائريين ومغاربة من أجل العمل
المشترك على مستوى المغرب العربي. انظر: الأحزاب
السياسية العربية؛ الثعالبي، عبد
العزيز. وهي الفكرة نفسها التي نادى بها من قبل الزعيم التونسي عبد العزيز
الثعالبي ذو الأصل الجزائري ورفاقه، وعمل من أجل تجسيدها مناضلون تونسيون وجزائريون
منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. ومن مظاهرها إصدار محمد باش حانبة في جنيف
مجلة المغرب وتأسيسه لجنة لتحرير تونس والجزائر سنة 1334هـ، 1916م، التي وجه
باسمها برقية إلى مؤتمر فرساي فيما بعد. وفي السنة نفسها أسس أخوه علي باش حانبة في
الآستانة لجنة لتحرير المغرب العربي إلى جانب منظمة لتنظيم فيلق من الجنود المغاربة
الذين أسرتهم الجيوش العثمانية والألمانية قصد إعدادهم لخوض معركة تحرير مسلحة في
تونس والجزائر. وقد سار مصالي الحاج على فكرة النضال نفسها على مستوى المغرب العربي
في بداية عمله السياسي. ومع أن الحركة السياسية في الجزائر قد ألغت فكرة
الإصلاح ضمن الحماية الفرنسية من برنامجها منذ سنة 1330هـ، 1912م، إلا أن فئة قليلة
ظلت متشبثة بها، فقد بقيت فكرة الإدماج مسيطرة بين المثقفين الجزائريين إلى فترة ما
قبل الحرب العالمية الثانية. ومن أشهر هؤلاء فرحات عباس وابن جلول والأخضري،
ومعظمهم أعضاء في المجالس البلدية أو مجالس الوفود المالية أو موظفون بالإدارة. ففي
سنة 1930م ألف هؤلاء اتحاد المنتخبين المسلمين بزعامة ابن جلول، وكان هدفه الأساسي
الإدماج التدريجي تحت قيادة النخبة من المثقفين في الحياة الفرنسية وتحسين أحوال
الجزائريين. وقد لقي هذا الاتجاه تشجيعًا كبيرًا من حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية
سنة 1355هـ، 1936م، وعندما وضع رئيس الحكومة بلوم مع الوزير فيوليت مشروعًا يقضي
بمنح الجزائريين حق المواطنة الفرنسية تدريجيًا مع اتخاذ إجراءات احتياطية، أيدته
جماعة الاتحاد، لكن البرلمان الفرنسي بعد سقوط حكومة بلوم رفض ذلك المشروع على
الرغم من عدم توفره على الحد الأدنى من حقوق الشعب الجزائري. ولما يئس الإدماجيون
بتعاقب الحكومات اليمينية على السلطة بفرنسا، سعوا للتكتل مع الاتجاهات الوطنية
الأخرىومن هذه الاتجاهات نذكر جماعة العلماء الذين كان لهم أثر مهم في إرساء القواعد
النظرية لفكرة الوطنية الجزائرية القائمة على العروبة والإسلام. ففي سنة 1344هـ،
1926م أسس بعض الشيوخ العلماء نادي الترقي في مدينة الجزائر بقصد إحياء التراث
العربي، وتركزت جهودهم على المحافظة على طهر العقيدة الإسلامية من الشوائب والبدع
الدخيلة، ومقاومة الطرقية التي خدم عديد من زعمائها الاستعمار الفرنسي. ومن هنا
اعتبرت حركة العلماء الجزائريين واحدة من حركات الإحياء السلفي، وقد كان لكثير من
أعضائها اتصالات بالحركات الإصلاحية في المشرق العربي. فالشيخ الطيب العقبي مثلاً
تلقى تعليمه بالحجاز وعمل زمنًا مع الملك عبد العزيز آل سعود. كما كان لكتابات
الشيخ محمد عبده ورشيد رضا تأثير كبير في توجيه أفكارهم. وفي سنة 1350هـ، 1931م أسس
العلماء الجزائريون بمدينة قسنطينة جمعية رسمية برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس،
وهو من خريجي جامع الزيتونة بتونس. وقام الطيب العقبي على نشر أفكار تلك الجمعية في
إقليم الجزائر، والبشير الإبراهيمي في وهران الذي تولى رئاسة الجمعية بعد وفاة
مؤسسها سنة 1358هـ، 1940م.
كان ابن باديس قد أصدر مجلة الشهاب ثم مجلة البصائر، وافتتحت
الجمعية عددًا من المدارس وأرسلت البعثات إلى جامعات الزيتونة والأزهر والقرويين
وإلى مدارس الشام والعراق، مما مهد لإحداث فروع لجامع الزيتونة ببعض المدن
الجزائرية. وكان شعار الجمعية شعب الجزائر مسلم وللعروبة ينتسب. وطالبت هذه الجمعية في
مؤتمرها التاسع بالاعتراف باللغة العربية لغة وطنية ومنح حرية الدين والعبادة
وإعادة الأوقاف إلى الإدارة الإسلامية وتنظيم المحاكم الشرعية. وقد استقال الشيخ
العقبي منها سنة 1356هـ، 1937م لأنها رفضت تجديد الولاء لفرنسا.
ومن هذه الحركات الوطنية حركة هيئة نجم شمال إفريقيا، التي أسسها مصالي الحاج
بباريس سنة 1344هـ، 1925 ـ 1926م، وأصبح رئيسًا لها سنة 1345هـ، 1927م. انظر: الأحزاب السياسية العربية.
وقد سيطر العمال الجزائريون على النجم. وتعرض النجم للحل من قِبَل الحكومة
الفرنسية سنة 1929م، فانتقل للعمل السري. وعاد إلى الظهور من جديد سنة 1352هـ،
1933م، فعقد مؤتمرًا عامًا بفرنسا صدر عنه قرار مطول يتألف من قسمين: قسم أول طالب
بالحريات الأساسية للجزائريين وبإلغاء جميع القوانين الاستثنائية وفي مقدمتها قانون
السكان الأصليين، وبمساواة الجزائريين بالمستوطنين في التوظيف وتطبيق قوانين العمل
وفي التعليم، مع جعل التعليم إلزاميًا وبالعربية، واعتبار اللغة العربية رسمية
بالدوائر الحكومية. وقسم ثان نص على المطالبة بالاستقلال الكامل للجزائر وجلاء
القوات الفرنسية، وتأليف جيش وطني وجمعية تأسيسية منتخبة تتولى وضع دستور للبلاد،
وحكومة ثورية وطنية. كما نص على أن تملك الدولة جميع وسائل الإنتاج والمرافق العامة
وإعادة الأراضي إلى الفلاحين
منتخبة تتولى وضع دستور للبلاد، وحكومة ثورية وطنية. كما نص على أن تملك الدولة
جميع وسائل الإنتاج والمرافق العامة وإعادة الأراضي إلى الفلاحين الجزائريين، مع
مساعدتهم بتقديم القروض لهم. وبذلك سبق نجم شمال إفريقيا، بحكم نشأته العمالية. وقد
قابلت فرنسا تلك المطالب بحل النجم، فأعاد مصالي الحاج تكوينه في سنة 1934م باسم
جديد هو الاتحاد الوطني لمسلمي شمال إفريقيا. لكن السلطات الفرنسية اعتبرته
هيئة غير مشروعة وحكمت على مصالي الحاج بالسجن. بعد ذلك تعرف هذا الأخير في جنيف
بسويسرا على الأمير شكيب أرسلان وتأثر به، مما جعله يعارض اقتراحات بلوم ـ فيوليت
ويزيد في الاتصال بالحركة الإصلاحية الجزائرية. وعندما عاد مصالي الحاج إلى الجزائر في صيف 1355هـ،
1936م رأت حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية في هذه الحركة منافسًا خطيرًا لها في
أوساط الشباب الجزائري، فحلتها في 19 شوال 1356هـ، 2/1/1937م لتظهر من جديد بفرنسا
في محرم 1357هـ، مارس 1937م باسم حزب الشعب الجزائري، الذي تعرض زعماؤه، بمن فيهم
مصالي الحاج، للاعتقال والمحاكمة والسجن، وذلك بعد مشاركتهم في الانتخابات البلدية
بالجزائر.
وتجدر الملاحظة بأن الاتجاهات المختلفة العاملة على الساحة الجزائرية بدأت تحاول
التقارب فيما بينها بعد خيبة الأمل التي ألحقتها حكومة الجبهة الشعبية بالجزائريين.
ولما نشبت الحرب العالمية الثانية وتولت حكومة المارشال بيتان الحكم في فرنسا، بعد
توقيع الهدنة مع ألمانيا في جمادى الأولى 1359هـ، يونيو 1940م، سلكت مسلكًا عنصريًا
تمثل في إبعاد العرب عن أي نشاط سياسي، وحكمت على مصالي الحاج سنة 1941م بالسجن ثم
نفته إلى جنوب الجزائر. مما دفع الوطنيين الجزائريين للعمل على الاتصال بجند
الحلفاء عندما نزلوا بالجزائر في 2/11/1361هـ، 11/11/1942م. وقد ظهر فرحات عباس في
مقدمة الحركة الوطنية الجزائرية خلال السنوات الباقية للحرب 1942-1945م، وبدأ نشاطه
عندما تقدم مع 22 من أعضاء مجالس الوفود المالية بعدد من المطالب إلى القيادة
الأمريكية والسلطات الإدارية الفرنسية. ومع أن أصحاب العريضة حاولوا استرضاء تلك
السلطات بتقديم مذكرة أخرى معتدلة فإنها تمسكت بموقفها الرافض للحوار، الأمر الذي
جعلهم يصدرون بيانًا في 26/1/1362هـ، 2/2/1943م أصبحوا يعرفون به